البارد | قصّة

Cris Mascort

 

(1)

تجنّبت زينب شعبان النظر في المرآة كثيرًا وطويلًا.

فضّلت عوضًا عن ذلك أن تعطي انعكاسها في المرآة لمحات سريعة، وهي ترتّب نفسها وتلبس نظّارتها تحضيرًا لاستقبال المريض في عيادتها.

البطل الخارق الّذي أحبّه الجميع يومًا، شبح الشهيد، كان متمدّدًا على أريكة المعالجة النفسيّة. كان يعاني من اكتئاب شديد، وشعر بأنّه لم يَعُد يستحقّ الجنّة، الّتي حصل على شهادة رسميّة للذهاب إليها، قبل ثلاثين عامًا في الانتفاضة الأولى. منذ فترة ليست بالوجيزة، فقدَ الأبطال الخارقون، أشباح الشهداء، قدرتهم الخارقة الأساسيّة: إلهام الناس. قبل بضعة أيّام صرخ شبح الشهيد في وسط مدينة رام الله، من أجل إقناع الناس بالإضراب الشامل، لكن لم يستمع أحد.

"بدأت بالانتقال إلى التفكير في الأبيض والأسود"، قال لها، "إمّا الناس دنيئون وجشعون واستهلاكيّون، وإمّا أنا المخطئ لأنّني استشهدت".

"الأمر ليس بهذه البساطة، ثمّة الكثير من الطيّبين بين الناس، وأنت اتّخذت أكثر القرارات الإنسانيّة نبلًا في ذات الوقت، لا داعي للاختيار بين جلد الذات وجلد الآخرين، أقول لكَ هذا ليس لكي تمتنع عن أن تعارض الوضع القائم، بل لكي تأخذ حقّك الطبيعيّ في أن تكون مرتاحًا ومطمئنًّا وحرًّا من عذابات الذات".

رنّ الهاتف فجأة.

"عفوًا يجب أن أردّ، إنّه مركز شرطة رام الله".

"الآنسة زينب شعبان؟".

"نعم؟".

"لقد قبضنا على البارد".

 

(2)

إلى جانب عملها الخاصّ في عيادتها، عملت زينب شعبان مستشارة للشرطة في الشؤون النفسيّة للأبطال الخارقين. قبل سنتين أطلقت الشرطة الفلسطينيّة، بتمويل من الاتّحاد الأوروبّيّ، مشروعًا بعنوان «ملاحقة المسقّعين والمسرمجين من أجل السلم الأهليّ». كان عدد كبير من هؤلاء الأشرار الخارقين في مقاهي الإنترنت، ومقاهي الرجال للعب الشدّة، وعلى دوّار المنارة، وفي القرى والمخيّمات، والمدارس الحكوميّة والجامعات، وحواجز التفتيش، وأماكن ضرب الحجارة على الجيش. إلّا أنّ قلّة منهم، مثل البارد، تمكّنوا من إحداث قلق واضطراب واسع في المجتمع.

"بررررررررررررررررررررررررر!"

"أحوووووووووووووووو!"

كان لدى البارد القدرة على تحويل الجوّ إلى مكان قارس، تبلغ درجة حرارته أقلّ من أربعين مئويّة تحت الصفر. كثيرًا ما اتّهموه بتجميد الناس مؤقّتًا وبثّ الصقيع على الأسفلت لزحلقة السيّارات في الطرق، وبتجميد كرات الطماطم في الحسبة وتحويلها إلى حجارة ورميها على الناس، وتجميد خزّانات المياه في أعالي السطوح، ونفخ الرياح القطبيّة على الفتيات في «شارع ركب».

وقد سُجِّلَت أفعال البارد على القنوات المباشرة للتواصل الاجتماعيّ، ونُشِرَت وشُجِبَت واستُنْكِرَت، واتُّهِمَ كلّ بطلٍ خارق في فلسطين بأنّه مسقّع ومْسَرْمِج وبدّه ترباي، وأنّ هذه مشكلة ثقافيّة متأصّلة لدى الأبطال والأشرار الخارقين العرب. وقد ردّ كثير من خبراء اختراق السيبراني المسقّعين والمسَرْمِجين على هذه الاتّهامات بمزيد من السقاعة والحيونة، وقد قام الكثيرون والكثيرات بنسخ شاشات تلك التعليقات واستنكارها، واستخدامها دليلًا على أنّ ثمّة مشكلة حقيقيّة خاصّة بالمجتمع الفلسطينيّ والعربيّ والإسلاميّ. وقد تفاقم هذا الأمر إلى حدّ خروج مسيرات ضدّ البارد، وقد أدّى ذلك إلى الردّ المسيء على تلك المسيرات... وهلمّ جرًّا.

كلّ تلك القلاقل أدّى إلى حاجة ماسّة إلى التعامل مع الموضوع من قِبَل المؤسّسات الأهليّة غير الربحيّة، والمؤسّسات الرسميّة، والشرطة، ومكتب النائب العامّ، والاتّحاد الأوروبّيّ، من أجل القبض على البارد وإحضاره إلى العدالة.

وقد حصل ذلك فجأة في وقت الظهر من هذا اليوم في منتصف تمّوز؛ إذ حملت زينب شعبان بجانبها معطفها الشتويّ، من دوّار الساعة إلى موقف تكسي بتونيا، من أجل الذهاب إلى مركز الشرطة بجانب «قصر رام الله الثقافيّ» (هناك بالطبع جرى تمويل عرض مسرحيّة عن ضرورة القبض على البارد).

 لكن سيّارة ليموزين بيضاء كبيرة مرّت من جانبها، ومن ثَمّ توقّفت بمحاذاة الرصيف. فُتِحَت نافذة السيّارة فإذا البطل الخارق، الرجل الأبيض، ينظر إليها. كان أبيض البشرة والشعر والعينين، ويلبس بدلة رسميّة بيضاء وقميصًا أبيض وربطة عنق بيضاء. يقول الكثيرون إنّه يملك القدرة الخارقة على أن يُقْنِعَ العرب بكراهية الذات، وبحبّه حبًّا جمًّا حتّى عبادته، لكنّ زينب كانت مقتنعة بأنّه مجرّد رجل عاديّ، إمّا يملك الكثير من المال، وإمّا يملك جواز سفر أجنبيًّا.

"آنسة زينب"، قال بالفرنسيّة أو الإنجليزيّة، "أعتقد أنّك سمعتِ بالخبر، وأنّنا ذاهبون إلى ذات الوجهة، اسمحي لي أن أوصلك".

"شكرًا لك، لكنّني أعتقد أنّني سأصل هناك في الوقت المناسب وحدي"، أجابته بالعربيّة.

"أنتِ حرّة"، قال لها، "هذا ما نحاول تعليمه إيّاكم منذ ثلاثين سنة، بأنّكم أحرار، لكنّكم تملكون تلك القدرة العجيبة الخارقة على رفض حرّيّتكم". 

"وهكذا الحال في حرّيّتكم، إذا حلّت قيودها أمست هي نفسها قيدًا لحرّيّة أعظم منها". ردّت عليه زينب فأغلق النافذة وانطلقت سيّارته.

 

(3)

تكالب جمع غفير من الصحافيّين والناشطين أمام مركز الشرطة، كان من السهل تمييز الناشطة الحقوقيّة والبطلة الخارقة الّتي تُدْعى "المرأة القويّة المستقلّة" بسبب طولها وحجمها، وبعكس غيرها من الناشطين والصحافيّين، لم تستطع الدخول إلى المركز بسبب صغر الباب.

كان طول المرأة القويّة المستقلّة يصل إلى سبعة أمتار، وكانت تملك جسمًا رياضيًّا جبّارًا، على نحو جعلها أقوى بطل خارق في رام الله كلّها من الناحية الجسديّة، وقد استحضر ذلك للأسف كراهية الكثيرين وغيرتهم. في السابق، كانت زينب صديقتها الصدوق. كيف لا وهي تفهم معاناتها، أن تكون كبيرًا يعني أن يلاحظك ويكرهك ويعلّق عليك الجميع؟ غير مرّة بكت المرأة القويّة المستقلّة في السرّ، وقالت إنّها تمنّت لو كانت شخصًا ذات حجم طبيعيّ، وقالت إنّها لم تختر أن تولَد كذلك.

إلّا أنّ صداقتهما باتت على محكّ، بعدما أخذت المرأة القويّة المستقلّة دورة لتمكين عمالقة النساء (تضمّنت دروسًا لغناء اليودْلَة) في مكان ما في مقاطعة بافاريا في ألمانيا. بعد ذلك عادت المرأة القويّة المستقلّة إلى البلاد وبدأت تغنّي اليودْلَة وتنتقد كلّ شيء. "هذا البيت صغير ولا يمكن أن أدخل إليه، هذا المطعم صغير، هذه السيّارة صغيرة، هذا المخيّم صغير، طرق تلك القرية صغيرة، كلّ شيء في هذه البلاد صغير بعكس بافارايا حيث تُراعى حقوق العملاقة، كم أكره هذه البلاد! كم هي صغيرة! كم الناس عقولهم صغيرة!

وبما أنّ زينب خبيرة في مجال وضع الحدود الصحّيّة، فقد اضطرّت إلى أن تحدّد علاقتها بـ «المرأة القويّة المستقلّة» قبل ستّة أشهر. فكّرت أكثر من مرّة في أن تكون هي معالجتها، لكنّها عرفت أنّها ستفشل لأنّها ببساطة فاقدة للموضوعيّة وتحبّها كثيرًا. كانت ذاك اليوم تلبس فستانًا ألمانيًّا قرويًّا تقليديًّا بحجم خيمة، وجدائل كأسلاك تعليق الجسور.

سلّمتْ، ونظرتْ كلّ واحدة منهما في الأخرى.

"مرحبًا"، قالت زينب، "كيف حالك؟".

"أهلًا زينب، كم أنا سعيدة! هذا يوم عظيم؛ لقد قبضنا على البارد، هذا يوم رائع من أجل العدالة الاجتماعيّة في فلسطين".

ليس هذا ما سيجعلك سعيدة يا صديقتي. قالت الخبيرة النفسيّة داخل زينب.

"آمل أن نتمكّن من حلّ هذه المشكلة بالفعل"، ردّت زينب.

"لقد حُلّت المشكلة وقبضنا عليه، ستنتهي السقاعة والسرْمَجِة والرجعيّة والتخلّف بالبلاد".

لو أنّ الأمور بهذه البساطة، ردّت زينب في قرارة نفسها.

 

(4)

في ردهة الاستقبال في مركز الشرطة، بجانب الرجل الأبيض، وقف البطل الخارق الّذي قبض على البارد الّذي يُدْعى «العرص الفلسطينيّ». كان أحد أهمّ أعضاء «مكتب الأبطال الخارقين» في رام الله، لبس معطفًا وقناعًا أسود وطاقيّة وكوفيّة حول الرقبة وربطة عنق بألوان الكوفيّة، وبدا كمحقّق في أفلام الغموض الخمسينيّة. ملك العرص القدرة على الركض بسرعة ثمانين كيلومترًا بالساعة. كان يركض يركض يركض، بين المؤسّسات والأحزاب العلمانيّة واليساريّة والإسلاميّة والمؤسّسات المحلّيّة والدوليّة من دون توقّف أو كلل أو نوم، يخطّط ويحيك ويتحادث ويفاوض ويؤثّر ويقنع. يُقال عنه إنّه يسمّى «العرص الفلسطينيّ» لأنّه كان يركض بين المجالس التشريعيّة والبلديّة والقرويّة في وقت الانتخابات، أي في أوقات «العرس الفلسطينيّ». وإذا ساعد «العرص الفلسطينيّ» حزبك أو جماعتك، فاعلم أنّه ستفوز وستكون ذا شأن كبير.

"كم الجائزة أيّها العرص؟"، سألت زينب.

"جائزتي السلم الأهليّ والسعادة وحقوق الإنسان في مجتمعنا".

"أي يالله عاد! لم أعرفك وأنت إيثاريّ لهذه الدرجة!".

"ماذا يا زينب؟ هل ستضطرّينني إلى الذهاب إلى البطلة الخارقة، بائعة التميمة، خوفًا من الحسد؟".

"الحسد قوّة خارقة يملكها الجميع لكن لا يستخدمها إلّا الضعفاء في نفوسهم".

"ليست مهمّة جائزتي بل جائزتك أنت يا آنسة زينب، المقبوض عليه أصبح في عهدتك الآن، هو لك والفرصة بأن تمارسي هوايتك المفضّلة؛ أن تهربي من نفسك عن طريق الانشغال بالآخرين"، قال قبل أن يضحك، وأكمل حديثه مع الرجل الأبيض.

عرص ابن عرص، ردّت زينب بصوت منخفض وهي تشعر بالحنق.

 

(5)

لبست زينب معطفها القطبيّ ودخلت إلى زنزانة البارد. كان يجلس على الطاولة وابتسامة عريضة مخيفة تتوسّط وجهه. كانت فروة رأسه ملساء خالية من الشعر كصخرة صوّان في وقت الشتاء، وأمّا جلده ففاتح بعروق زرقاء منتشرة في أنحاء الجسد كالوشوم.

"هل أنت مثقّفة وتحبّين الفنّ؟"، سألها فجأة وهي تجلس.

"لا، لا أحبّ الثقافة وخاصّة في رام الله وحيفا، لكنّني أحبّ اللوحات الفنّيّة".

"مَنْ تحبّين؟".

"فنسنت فان جوخ".

صمت قليلًا وهو لا يتوقّف عن الابتسام، فكّر قليلًا، ثمّ قال:

"فان خوخ ولّا شحن برقوق؟".

"يمّا مسكع وجهك!"، أجابته بابتسامة صفراء.

"أوه، انتبهي، أنت تنتهكين حقوقي!"، قال ساخرًا.

خلعت زينب نظّارتها وحملقت في عيون البارد، أصبح لون بؤبؤَي عينيها أحمر.

الّذي يعرفه جميع سكّان رام الله، بمَنْ فيهم الشرطة والنائب العامّ والمؤسّسات الأهليّة والدوليّة، أنّ زينب بطلة خارقة قادرة على التعاطف المفرط، وهي القوّة الخارقة الأكثر ندرة في العالم.

"أنا أحبّك وأنا هنا كي أستمع إليك"، قالت له.

شعر البارد بذاته يحترق من الداخل بالمشاعر، سالت دموعه وتجمّدت ثمّ ذابت ثمّ تبخّرت ومن ثَمّ أجهش بالبكاء. وبدأ يحكي:

"والدي ضربني يوم المنخفض الجوّيّ القطبيّ سنة 1998، ضربني وهشم جمجمتي ومن ثَمّ رماني خارج البيت في الثلج وأغلق الباب، صرخت كي يُدْخِلَني، ولم يفعل، متّ في اليوم الثاني متجمّدًا مدّة ثلاث ساعات، نقلني الجيران إلى المستشفى وأعادني الأطبّاء إلى الحياة وقد اكتسبتُ هذه القدرة بعد ذلك، أرجوك! توقّفي! توقّفي الآن!".

أصبحت الغرفة دافئة، اختفى اللون الأحمر في عينَي زينب وخلعت معطفها ومن ثَمّ عانقته وهو يبكي.

"أنت ضحيّة"، قالت له، "لكن تلك ليست رخصة لمعاملة الآخرين بسوء، ثمّة العديد من الأشرار الخارقين الّذين سيستغلّون قصّتك كضحيّة من أجل تحقيق مأربهم، لا تسمح بذلك، هذا هو رقمي، سنتحدّث أكثر وسنصل إلى حلّ معًا".

 

(5)

في ذات الليلة، كانت زينب شعبان تلبس بيجامتها من أجل النوم وتتجنّب النظر في المرآة.

نظرت بدلًا من ذلك من نافذة غرفتها فشاهدت المرأة القويّة المستقلّة الوحيدة تجلس وحيدة على رصيف بعيد. كانت متربّعة غارقة في التفكير بجانب عمود ضوء يبدو، في ذاك المشهد، كمصباح مكتبيّ. فكّرت زينب قليلًا، ومن ثَمّ قرّرت أن تهاتفها في مطلع الشهر القادم، من أجل تبادل أطراف الحديث ومساعدتها على المضيّ قدمًا. أمّا الآن فهي مرهقة من يوم طويل عصيب محشوّ بالمشاعر، فقد جعلها التعاطف المفرط هزيلة وفي حاجة إلى الراحة والنوم.

في الساعة الثالثة صباحًا استيقظت زينب من حلم مزعج.

أضاءت الغرفة وذهبت إلى المرآة وحملقت، الّذي يعرفه أهل رام الله أنّ زينب كانت تملك القدرة الخارقة على التعاطف المفرط، والّذي لا يعرفونه أنّها عاجزة عن أن تتعاطف مع ذاتها أو أن تحبّ نفسها.

بعد نصف ساعة من النظر العديم الأمل في المرآة، أطفأت زينب شعبان الضوء وعادت إلى الفراش وأجهشت بالبكاء.

 

 

فخري الصرداوي

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من "جامعة ديوستو" في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.